فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

الإيجاز:
في هذه الآيات إيجاز بليغ يحسن بنا أن تتدبره لأن المدار فيه على المعاني دون الألفاظ فرب لفظ قليل ينطوي على معنى كثير وقد تقدم معنا أن الإيجاز قسمان أحدهما إيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد وإيجاز بالقصر، وفي هذه الآيات إيجاز بالحذف وهو قوله: {بم يرجع المرسلون} ثم قوله: {فلما جاء سليمان} فقد حذف هنا ما لو أظهر لظهر الكلام غثا لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن، لأن الخاطر قد يذهب كل مذهب، وقد يترك العنان للخيال ليجول في آفاق لا نهاية لها ليتصور الهدية التي أعدتها مما يتولى الشرح إظهاره. فقد روي أن بلقيس كانت امرأة عاقلة لبيبة قد ساست الأمور، وسبرت أغوار الناس وكانت تعرف أن سليمان لو كان نبيا لترفع عن أخذ الهدية ولو كان ملكا لأخذها، فأحبت أن تتأكد من هذه المسألة، وروي أيضا أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ومحلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك أي إناث الخيل في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وبعثت رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنّك أمره وان رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان بما تم فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب فربطوها عن يمين الميدان ويساره وأمر أولاد الجن وهم خلق كثير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ثم رد الهدية وقال للمنذر ارجع إليهم، فقالت هو نبي وما لنا به من طاقة وتجهزت إلى المسير إلى سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثنى عشر ألف قيل أي ملك وهو بفتح القاف سمي قيلا لأنه ينفد كل ما يقول، إلى أن قربت منه على فرسخ فشعر بها.
هذا والهدية اسم المهدى كما أن العطية اسم المعطى فتضاف إلى المهدي والمهدى اليه، تقول هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت اليه والمضاف اليه في قوله: {بل أنتم بهديتكم} هو المهدى اليه.

.[سورة النمل الآيات: 38- 44]:

{قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)}.

.اللغة:

{عِفْرِيتٌ} العفريت: الخبيث المنكر والنافذ في الأمر مع دهاء وذلك من الانس والجن والشياطين وجمعه عفاريت ومؤنثه عفريتة والعفرية مثله وقد قرئ به ويقال رجل عفرية وعفر وعفير إذا كان صحيحا شديدا مونق الخلق أخذ من عفر الأرض وهو التراب أي من علق به من عفره بالأرض، ومنه ليث عفرين أي ليث ليوث معفر لفريسته، قال الخليل، رجل عفار بين العفارة إذا وصف بالشيطنة، والعفير أيضا الظريف الكيس، ويقال للشيطان عفريت وعفرية وفي الحديث: «إن اللّه ليبغض العفريت النفريت» قيل هو الجموع المنوع وقال أبو عثمان النهدي دخل رجل عظيم على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له: متى عهدك بالحمى قال: ما أعرفها قال فبالصداع قال: ما أدري ما هو قال: أفأصبت بمالك قال لا قال: أفرزئت بولدك قال لا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه ليبغض العفريت النفريت وهو الذي لا يرزأ.
{الصَّرْحَ} قال في الكشاف: الصرح: القصر وقيل صحن الدار وأصله من التصريح وهو الكشف، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف، ولؤم صراح، ولبن صريح أي ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح من عرب صرحاء: غير هجناء، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحة: مجاهرة، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، قال الطرماح في وصف ذئب:
إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة ** ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح

ممَرَّدٌ: الممرّد: المملّس وسيأتي سر بنائه في باب الفوائد ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم وجود الشعر به وفي القاموس:
التمريد في البناء التمليس والتسوية وبناء ممرد: مطول والمارد المرتفع والعاتي.
قوارِيرَ: في المصباح: القارورة إناء من زجاج والجمع القوارير والقارورة أيضا وعاء الرطب والتمر وهي القوصرة وتطلق القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها، قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة وفي القاموس والقارورة حدقة العين وما قر فيه الشراب أو نحوه أو يخصّ بالزجاج، وقوارير من فضة أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج.

.الإعراب:

{قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} فاعل قال سليمان والخطاب لكل من هو عنده من الجن والانس وغيرهما، وأيكم مبتدأ وجملة يأتيني بعرشها خبر والظرف متعلق بيأتيني أيضا وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف اليه ومسلمين حال.
{قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ} قال فعل ماض وعفريت فاعل ومن الجن صفة وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والظرف متعلق بآتيك ومن مقامك متعلق بتقوم أي قبل أن تبارح مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من الغداة إلى منتصف النهار.
{وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} الواو عاطفة وان واسمها وعليه متعلقان بقوي واللام المزحلقة وقوي خبر وأمين خبر ثان أي قوي على حمله أمين به لا أختلس منه شيئا ولا أعبث به.
{قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} لابد من تقدير محذوف على طريق الإيجاز كما تقدم وهو قال سليمان أريد أن يتم ذلك في أسرع وقت. وقال فعل ماض والذي فاعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر ومن الكتاب صفة لعلم والجملة صلة الموصول وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والجملة مقول القول وتقدم اعراب الباقي وسيأتي معنى ارتداد الطرف في باب البلاغة.
{فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} الفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام ويروى أن آصف بن برخيا وهو الذي عنده علم من الكتاب المنزل قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف بالعلم الذي لديه فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبغ بمجلس سليمان، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومستقرا حال لأن الرؤية بصرية أي ثابتا والظرف متعلق بمستقرا وجملة قال لا محل لها من الاعراب وهذا مبتدأ ومن فضل ربي خبر.
{لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} اللام للتعليل ويبلوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعل يبلوني يعود على ربي والياء مفعول وأ أشكر الهمزة للاستفهام وأشكر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وجملة أأشكر بدل من الياء في يبلوني فهو بمثابة المفعول به وأم أكفر عطف على أأشكر.
{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشكر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر اسم ان أي فإن ثواب شكره، ولنفسه هو الخبر وفعل الشرط وجوابه خبر من ومن كفر فإن ربي غني كريم جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الاعراب.
{قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ} نكروا فعل أمر والواو فاعل ولها متعلقان ينكروا وعرشها مفعول به أي غيّروه، وننظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف وجملة أتهتدي في محل نصب على المفعولية لأن الاستفهام علق ننظر عن العمل.
وأم حرف عطف معادلة للهمزة وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على أتهتدي واسمها مستتر تقديره هي ومن الذين خبر تكون وجملة لا يهتدون صلة الذين.
{فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} الفاء عاطفة على محذوف اقتضاه الإيجاز كما تقدم، أهكذا: الهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه والكاف حرف جر للتشبيه وذا اسم اشارة في محل جر بالكاف والجار والمجرور خبر مقدم وعرشك مبتدأ مؤخر، والأصل اتصال هاء التنبيه باسم الاشارة فكان مقتضاه أن يقال أكهذا عرشك؟ وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر كافا، فلو قلت أبهذا أمرت أو ألهذا فعلت؟ لم يجز فيه ذلك الفصل، فلا يجوز أن تقول أها بذا أمرت، وأ ها لذا فعلت؟ وسيأتي السر في الإتيان بكاف التشبيه وعدم الاكتفاء بالقول أهذا عرشك في باب البلاغة. قالت: فعل وفاعل مستتر تقديره هي يعود على بلقيس وكأنه هو وكأن واسمها والضمير هو خبرها وسيأتي السر في عدولها عن مطابقة الجواب للسؤال في باب البلاغة أيضا.
{وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} الواو عاطفة على كلام محذوف للايجاز أي لما سمعوا قولها كأنه هو قالوا أصابت في الجواب فقال سليمان: وأوتينا وهو فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب الفاعل والعلم مفعول أوتينا الثاني ومن قبلها متعلقان بأوتينا وكنا الواو عاطفة وكان واسمها ومسلمين خبرها، ويحتمل أن يكون وأوتينا من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة التي دل عليها سياق الكلام والمعنى وأوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة والأول أرجح.
{وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ} من جملة كلام سليمان أو من كلام اللّه، وصدها فعل ماض ومفعول به وما موصول فاعل وجملة كانت صلة واسم كانت مستتر تقديره هي وجملة تعبد خبر ومن دون اللّه حال ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وصدّها عبادة الشمس عن الإسلام وجملة إنها تعليل للصد عن الإسلام وعبادة غير اللّه، وان واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت هي ومن قوم خبرها وكافرين صفة وقرئ أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صدها أو نصب بنزع الخافض {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} قيل فعل ماض مبني للمجهول والجملة مستأنفة وجملة ادخلي الصرح مقول القول والصرح مفعول به على السعة وستأتي قصة الصرح في باب الفوائدَ.
{فللَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها} الفاء عاطفة على محذوف للايجاز أي فدخلته، لما حينية أو رابطة وجملة حسبته لا محل لها والهاء مفعول به أول ولجة مفعول به ثان {وكشفت عن ساقيها} عطف على حسبته. {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ} إن واسمها وصرح خبرها وممرد صفة ومن قوارير صفة ثانية أي إن الذي ظننته ماء فوقه هو صرح ممرد أي مسقف بسطح فمن أراد مجاوزته لم يحتج إلى تشمير ثيابه.
{قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} رب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وان واسمها وجملة ظلمت نفسي خبرها وأسلمت عطف على ظلمت ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنة مع سليمان وإنما قدر حالا لأن تعليقه بأسلمت يوهم اتحاد اسلاميهما في الزمان، وللّه متعلقان بأسلمت ورب العالمين بدل من اللّه أو صفة له.